في الماضي كان الأميركيون شعباً قوياً يعتمد على نفسه دون الحاجة إلى صدقة الدولة والسياسيين، بل يشمرون على سواعدهم ويكدون لتلبية احتياجاتهم، لكن بعد ذلك جاءت الحكومة الفيدرالية المتضخمة ومعها أتت خدمات لا حاجة إليها، وقيود فُرضت على الجميع ليتحول الشعب المعتد بنفسه إلى مجموعة من الأفراد دائمي الشكوى وقليلي العمل. والنتيجة أن تصاعدت الفاتورة وتضخمت أرقام الدين العمومي الذي نورثه اليوم إلى أحفادنا، هذه هي الأسطورة التي درج "الجمهوريون" على ترديدها في الأسابيع القليلة الماضية في سياق النقاش الدائر بشأن رفع سقف الدين الفيدرالي. وعلى غرار باقي الأساطير، فهي تحمل في ثناياها بعض الحقيقة، فالدين العام وصل فعلًا إلى مستويات قياسية يتعين لجمه والحد منه، لكن السؤال الأساسي هو كيف، وهنا تواصل آلة الحزب "الجمهوري" إنتاج الأساطير والخيال، فبالنسبة لـ"الجمهوريين" كل ما يتعين القيام به لتقليص الدين هو خفض الموازنة التي تحولت إلى ما يشبه العبارة السحرية القادرة على حل جميع المشاكل الأميركية. والحال أن تقليص النفقات لن يكون لوحده كافياً لتجاوز المحنة الاقتصادية التي يعيشها الأميركيون. ولمعرفة السبب ما علينا سوى الرجوع قليلاً إلى الوراء والنظر كيف كانت تبدو الولايات المتحدة في الواقع وليس كما يتوهمها "الجمهوريون" على مدى السنوات السابقة عن وجود الحكومة الفيدرالية الكبيرة. والحقيقة أن المشهد لا يسر الرائي ولا يدعو إلى الارتياح، بل ليس فيه ما يغري بتكراره اليوم، لا سيما عندما كان الاقتصاد يدخل في أزمات دورية، تلك الأزمات التي يحفظها كل طالب اقتصاد في أميركا عن ظهر قلب وهي تضرب بشكل منتظم كل عقدين أو ثلاثة عقود مثل الأزمات المتوالية في أعوام 1819، 1837، 1857، 1873و1893 وغيرها، هذه السنوات العجاف التي خلت من تدخل الحكومة الفيدرالية لم يكن كما يتخيل "الجمهوريون" هادئة ومزدهرة، بل صاحبتها الكثير من الاضطرابات الاجتماعية والعنف والفوضى. ولنتأمل ما يسمى بارتباك عام 1837 عندما فقد ثلث عمال المصانع في الولايات المتحدة وظائفهم، فبعد ارتفاع صاروخي في أسعار المواد الغذائية وفي غياب أي مساعدة حكومية للفقراء خرج الأميركيون إلى الشوارع مطالبين "بالخبز واللحم والسكن والوقود"، وعندما لم يصغِ أحد إلى مطالبهم تحولت المظاهرات إلى أعمال عنف، وفي نيويورك كما نقلت إحدى الصحف المحلية وقتها تم نهب محل لبيع الدقيق لأحد التجار الأغنياء بحيث "تدفقت براميل من الدقيق وقامت النساء بملء جيوبهن بالدقيق ونقله إلى بيوتهن". وبعد عشرين عاماً وفيما كانت أميركا تعيش الكساد العظيم تجمع أكثر من 15 ألف عاطل أميركي وسط نيويورك وتوجهوا إلى "وول ستريت" مرددين هتاف "نريد العمل"، محتلين مقر البلدية في المدينة ولم يخرجوا إلا بعد تدخل قوات الجيش. لكن أكبر أعمال العنف هي التي اندلعت في المدن الصناعية مثل "بيتسبورج"، حيث قامت ميليشيات شُكلت للدفاع عن مصالح رجال الأعمال بإطلاق النار على الحشود المضربة في عام 1877 ليسقط ما يزيد على عشرين قتيل. وكرد فعل قامت الجماهير المحتجة بإحراق مائة قاطرة، وخُربت حوالي ألفي سيارة، وعلى امتداد ربع القرن التالي استُدعي الحرس الوطني للتدخل ما لا يقل عن 500 مرة لفض الاحتجاجات، وحتى بعد دخول القرن العشرين استمرت إراقة الدماء كلما انكمش الاقتصاد وحل الركود. ففي عام 1934 قُتل 13 عاملاً مضرباً في قطاع النسيج خلال الكساد الاقتصادي، فيما تمكن العمال عبر الاعتصامات من إيقاف قطاع صناعة السيارات بكامله، واليوم تواجه الولايات المتحدة أشد أزماتها الاقتصادية منذ الكساد العظيم خلال ثلاثينيات القرن الماضي، إذ يعاني ما بين 14 و21 مليون أميركي من البطالة رغم سعيهم الدؤوب للحصول على عمل، فيما 8 إلى 9 ملايين أميركي يعملون في وظائف بدوام جزئي لعدم تمكنهم من الحصول على فرص عمل ثابتة ومستمرة، ويمكن رؤيتهم اليوم في مأوى المتشردين، أو أماكن توزيع المساعدات، أو يقفون في صفوف طويلة أمام مراكز توزيع الغذاء، لكن من غير المرجح اندلاع العنف، أو رؤية اشتباكات دامية بين الشرطة والعاطلين، والسبب هو تدخل الحكومة. فقد استحدثت الحكومة الفيدرالية على مر السنوات الماضية شبكة من الحماية تساعد المحتاجين على الاستمرار في العيش وسد احتياجاتهم الأساسية دون اللجوء إلى السرقة، أو العنف. وبالطبع ورغم شبكة الحماية تلك مازالت الكثير من الثغرات تشوب النفقات الحكومية، لا سيما بعد انضمام ما يعرف بالاستحقاقات الاجتماعية خلال الستينات مثل التأمين الاجتماعي ومزايا قدماء المحاربين والمساعدات المقدمة للأبناء فأصبحت الاستحقاقات الاجتماعية تأكل ربع الموازنة العامة، وبعد الألفية الثالثة أصبحت كلفة الاستحقاقات 60 في المئة من الموازنة بعد إضافة الرعاية الطبية، لكن ما كان ذلك ليطرح أي مشكلة لو أن الأميركيين مستعدون لتحمل بعض الضرائب، وهو أمر بعيد حالياً،. وإذا كان الدين الفيدرالي قد تجاوز الحد المسموح به، فذلك لأن بوش خفض الضرائب مضيعاً تريليون دولار على الخزينة العامة. وفي الأخير لا بد من الإقرار أن أي حل لمشكلة العجز المتفاقم سيجمع بين فرض الضرائب وإصلاح البرامج الاجتماعية، لكن بالتأكيد لن يكمن الحل في الرجوع إلى ما يحن إليه "الجمهوريون" من أيام سابقة على الدولة الفيدرالية، لأن تلك الأيام كانت مريعة ومليئة بالفوضى والعنف. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"